Issue 540 November
99 الأبحاث والتقارير ) 2025 إتحاد المصارف العربية (تشرين الثاني/ نوفمبر U NION O F A RAB B ANKS (November 2025) سلسلة من الإصلاحات العميقة في إطار مكافحة غسل الأموال بإقرار الحزمة التشريعية 2024 وتمويل الإرهاب، تُوجت في العام الجديدة التي تضمّنت إنشاء الهيئة الأوروبية لمكافحة غسل الأموال The Authority for Anti-Money Laundering and ( ) ومجموعة Countering the Financing of Terrorism من اللوائح الملزمة لجميع الدول الأعضاء. وتمثل هذه الهيئة نقلة نوعية في بنية الإشراف الأوروبي، إذ تتولّى الرقابة المباشرة على المؤسسات المصرفية عالية المخاطر، وستُنشئ قاعدة بيانات موحدة للملكية المستفيدة، إلى جانب وضع حدّ أقصى للتعاملات النقدية لا يتجاوز عشرة آلاف يورو. وتأتي هذه التطورات إستجابةً للثغرات التي كشفتها فضائح غسل الأموال الأوروبية في السنوات الأخيرة، والتي بيّنت أنّ تعدّد السلطات الوطنية وتفاوت معايير التنفيذ أضعفا فعّالية النظام الأوروبي بأكمله. أما في الولايات المتحدة، فقد شكّل قانون الشفافية المؤسسية ) الذي دخل حيّز التنفيذ Corporate Transparency Act ( ، نقطة تحوّل مهمة في تعزيز مبدأ الإفصاح 2024 مطلع العام عن الملكية المستفيدة. وألزَم القانون المذكور الشركات الأميركية والكيانات الأجنبية العاملة في السوق بتقديم بيانات دقيقة حول المالكين الفعليين إلى شبكة مكافحة الجرائم المالية، ما وفّر أداة مركزية للحدّ من إساءة إستخدام الهياكل القانونية في إخفاء الهويات الحقيقية للمستفيدين. وبذلك عزّزت الولايات المتحدة نموذجها القائم على الشفافية الوقائية، مكمّلةً سياساتها الصارمة في العقوبات الإقتصادية ومتابعة تمويل الإرهاب، التي لا تقتصر على الأفراد بل تمتد إلى الكيانات الوسيطة وشبكات التمويل غير التقليدية. وضمن هذا السياق، أصبحت الأصول المشفّرة محوراً تنظيمياً جديداً في أوروبا والولايات المتحدة على السواء. فقد أقرّ الإتحاد لائحة الأسواق في الأصول المشفّرة، 2023 الأوروبي في العام التي تهدف إلى تنظيم عمل مزودي خدمات الأصول الرقمية، وتفرض متطلّبات الإفصاح والحوكمة والإمتثال على غرار التي تُلزم الجهات Travel Rule المصارف. كما أُقرّت قاعدة المزودة بخدمات الأصول المشفّرة بجمع بيانات المرسِل والمستفيد في جميع التحويلات الرقمية، ما أسهم في سدّ الفجوة بين القطاع المصرفي التقليدي والعالم الافتراضي للأصول الرقمية. وبذلك، يظهر أن الإطار المعياري العالمي يتجه نحو التكامل بين الشفافية، التكنولوجيا، والمساءلة، مع تراجع الفوارق بين الأنظمة المصرفية التقليدية والأنشطة المالية الرقمية. وتفرض هذه الإتجاهات واقعاً جديداً على المصارف العربية، التي باتت مطالَبة بمواكبة هذه المعايير لا كمتلقية لها، بل كشريك فاعل في صياغة نموذج عربي متطوّر يعكس خصوصيات البيئة الإقليمية ومتطلّبات الإندماج في النظام المالي العالمي. التقنيات الحديثة في الإمتثال والرصد والتحليل أحدثت الثورة الرقمية في القطاع المالي نقلة نوعية في مفهوم الإمتثال، بعدما أصبحت التكنولوجيا عنصراً أساسياً في الكشف المبكر عن المخاطر وتعزيز كفاءة الرصد والتحليل. فبينما كان الإمتثال في الماضي يعتمد على قواعد يدوية ونماذج جامدة، أصبح اليوم منظومة ذكية تقوم على تحليل البيانات الضخمة ) والذكاء الإصطناعي والتحليلات الرسومية Big Data( )، بما يتيح فهماً أعمق للأنماط المشبوهة Graph Analytics ( وتدفقات الأموال العابرة للحدود. وتُعد التحليلات الرسومية من أبرز الأدوات التي غيّرت وجه المراقبة المالية، إذ تسمح برسم العلاقات المعقّدة بين العملاء والمعاملات بطريقة بصرية تكشف شبكات تمويل خفية أو معاملات متكررة تتجاوز الأنماط الطبيعية للسلوك المالي. فالمصارف التي تبنّت هذه الأدوات أصبحت قادرة على تتبّع سلاسل التحويلات التي تتجاوز عشرات الحسابات في دقائق معدودة، وإكتشاف الإرتباطات بين كيانات تبدو في الظاهر غير مترابطة. لم يعُد هذا الأسلوب حكراً على الأجهزة الأمنية، بل أصبح ركيزةً في برامج الإمتثال داخل المؤسسات المالية المتقدمة. أما الذكاء الإصطناعي، فقد أضاف بعداً تحوّلياً من خلال قدرته على التعلم الذاتي وتحسين أداء نظم الإنذار مع مرور الوقت. فبدلاً من إعتماد القواعد الثابتة، إنتقلت المؤسسات إلى أنظمة قائمة على النماذج التنبؤية التي تتعلّم من التجارب السابقة وتتكيّف مع تغيّر أنماط السلوك المالي. ونتيجة لذلك، تمكّنت المصارف التي اعتمدت خوارزميات التعلم الآلي من خفض الإنذارات الكاذبة % في بعض الحالات، مع رفع 50 % و 30 بنسبة تتراوح بين دقة الإكتشاف وتحسين تخصيص الموارد البشرية. لكن هذا التطوّر التقني ترافق مع تحديات جديدة، أبرزها ضرورة ضمان تفسيرية القرارات وشفافية النماذج، إذ لم تعد الجهات الرقابية تقبل أن تُدار قرارات الإيقاف أو الإبلاغ بناءً على «صندوق أسود» لا يُمكن تبرير مخرجاته. وتبرز أيضاً أهمية التحليلات السلوكية في مراقبة سلوك العملاء والمعاملات بناءً على أنماط إستخدامهم الإعتيادية. فعندما تنحرف حركة العميل عن السلوك الطبيعي المسجل تاريخياً، تُولد إنذارات فورية قد تكشف محاولات غسيل أموال أو تمويلاً غير مشروع. ولعلّ الجمع بين التحليلات السلوكية والرسومية ضمن بيئة تحليلية موحدة يشكل الخطوة التالية في تطوير ما يُعرف بـ «الذكاء الإمتثالي»، وهو إتجاه عالمي تسعى إليه المصارف الكبرى لتقليل الزمن بين الإشتباه واتخاذ القرار.
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTMxNjY0Ng==