Issue 540 November
100 الأبحاث والتقارير ) 2025 إتحاد المصارف العربية (تشرين الثاني/ نوفمبر U NION O F A RAB B ANKS (November 2025) إلى جانب هذه التقنيات، تلعب البيانات الضخمة دوراً جوهرياً في إثراء عملية الرصد والتحليل. فالمؤسسات المالية أصبحت تجمع كمّاً هائلاً من البيانات التشغيلية والتجارية والشخصية التي تُستخدم لتغذية أنظمة الامتثال بالمعطيات الدقيقة. وتقوم الأنظمة الحديثة بدمج مصادر متعدّدة، كبيانات العملاء، وسجلات التحويلات، ونشاطات القنوات الإلكترونية، وسجلات الأسواق الثانوية، لتشكّل صورة شاملة عن المخاطر المحتملة. غير أنّ هذا التوسّع في جمع البيانات يفرض إلتزامات جديدة في مجال الخصوصية وحماية المعلومات، ما يستدعي توازناً دقيقاً بين متطلّبات الرقابة ومتطلّبات الأمن السيبراني والحوكمة. وفي الوقت نفسه، تحوّلت المدفوعات الفورية إلى تحدٍ تقني جديد لأنظمة الامتثال، إذ لم يعد الوقت متاحاً للمراجعة اليدوية. فالمصارف الرائدة أنشأت غرف عمليات هجينة تجمع بين الذكاء الإصطناعي والمحللين البشريين، بحيث يُتخذ القرار خلال ثوانٍ معدودة دون تعطيل العمليات الشرعية. في تصميم الرسائل المالية ISO 20022 كما تم إعتماد معيار الجودة لتوسيع الحقول المعلوماتية الخاصة بالمُرسل والمُستفيد والغرض من التحويل، مما حسّن من جودة البيانات المستخدَمة في الرصد الفوري. ورغم هذا التقدم، تبقى التحدّيات الأخلاقية والتشغيلية قائمة، إذ يتطلب توظيف الذكاء الاصطناعي في الإمتثال وضع أطر حوكمة صارمة تضمن العدالة وتمنع الإنحياز وتحافظ على خصوصية المستخدمين. كما ينبغي للمصارف أن تطوّر قدرات بشرية موازية لفهم مخرجات النظم الذكية وتفسيرها للإدارات العليا والجهات الرقابية. فالتقنية ليست بديلاً عن الإنسان، بل هي أداةٌ لتعزيز قدرته على إتخاذ القرار في بيئة أكثر تعقيداً وسرعةً من أي وقت مضى. تمويل الإرهاب وتمويل الانتشار والعقوبات الدولية يشكّل تمويل الإرهاب وتمويل الإنتشار أحد أعقد القضايا التي تواجه أنظمة الإمتثال الحديثة، إذ تتجاوز مخاطرهما الأطر المالية لتصبح مسألة أمن قومي وسياسي عالمي. فمع تنامي العولمة المالية وتنوّع أدوات التحويل عبر الحدود، أصبحت شبكات تمويل الإرهاب تستخدم قنوات شرعية في ظاهرها مثل التجارة والعمل الإنساني والتحويلات الفردية لتضخيم مواردها أو تمرير الأموال بطرق يصعب رصدها بالوسائل التقليدية. ويزداد الأمر تعقيداً عندما تتقاطع هذه الأنشطة مع مناطق نزاع أو اقتصادات نقدية ضعيفة الضبط، كما هي الحال في عددٍ من الدول العربية والنامية، حيث تتقلّص قدرة السلطات الرقابية على تتبّع حركة الأموال بصورة دقيقة. لقد أظهرت مجموعة العمل المالي في تقاريرها الأخيرة أنّ مكافحة تمويل الإرهاب لا يُمكن أن تقتصر على متابعة أسماء الأفراد أو الكيانات المدرجة في القوائم، بل يجب أن تمتد إلى تحليل الأنماط السلوكية والإقتصادية المرتبطة بتلك الكيانات. وهذا ما يعرف اليوم بـ «التحليل الشبكي للتمويل الإرهابي»، الذي يهدف إلى إكتشاف الروابط غير المباشرة بين المتبرعين والوسطاء والمستفيدين النهائيين. كما وسّعت المجموعة نطاق الرقابة ليشمل تمويل الإنتشار، أي دعم الأنشطة المتعلّقة بنشر أسلحة الدمار الشامل أو المواد مزدوجة الإستخدام، وهو مجال يتطلّب تعقّب سلاسل التوريد والتجارة الدولية ومصادر التمويل المساندة لها. وقد أصبحت العقوبات الدولية أداة رئيسية لمواجهة هذه المخاطر. فالولايات المتحدة، والإتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة تعتمد أنظمة متطورة لتجميد الأصول وحظر التعامل مع الأفراد أو الكيانات المتورّطة في الإرهاب أو الإنتهاكات الدولية. وقد تطوّرت تقنيات فحص العقوبات لتشمل الملكية والسيطرة غير المباشرة، بحيث لا يقتصر الفحص على الإسم القانوني بل يمتد إلى الكيانات التابعة والمملوكة جزئياً، ما يتطلّب من المصارف تحديث قواعد بياناتها بصورة مستمرة والتأكد من توافقها مع التغييرات اللحظية في القوائم الدولية. كما أدّت الرقمنة المتزايدة في التمويل إلى بروز تحديات جديدة مثل استخدام العملات المشفّرة في تمويل الأنشطة المحظورة، ما التي تلزم Travel Rule دفع الهيئات التنظيمية إلى فرض قواعد مزودي خدمات الأصول المشفّرة بالإفصاح عن بيانات المرسل والمستفيد في كل تحويل. ومن هنا، يتضح أن مستقبل مكافحة تمويل الإرهاب وتمويل الإنتشار يعتمد على التكامل بين الإمتثال التقني والتحليل الاستخباراتي المالي، وعلى قدرة المؤسسات في بناء أنظمة رصد مرنة توازن بين سرعة التنفيذ ودقة التحقق. وفي ظل ذلك، فالمصارف العربية مدعوة اليوم إلى تطوير قدراتها في هذا المجال، لا سيما عبر تعزيز التعاون بين الجهات الرقابية الوطنية والمصارف التجارية، وتبادل المعلومات ذات الصلة بالمعاملات المشبوهة ضمن أطر قانونية وآمنة. فالمسؤولية لم تعد تقع على جهة واحدة، بل أصبحت مشتركة بين المصارف والهيئات التنظيمية ووحدات الإستخبارات المالية، في إطار ما يُعرف بالشراكة الوقائية التي أثبتت فعّاليتها في الحد من الجرائم المالية عبر تبادل الخبرات وتوحيد أنظمة الإنذار المبكر. المصدر: إدارة الأبحاث والدراسات – إتحاد المصارف العربية
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTMxNjY0Ng==